q
كنتُ منشغلًا بعمق، أفكّر بموضوع للكتابة حين فوجئت بما ظهر في شاشة التلفاز، وجه شاب رأيته سابقا، لكن لا أتذكّر على وجه الدقة، أين رأيته؟، في البدء شغلني الشاب الذي امتلأت بوجهه مساحة الشاشة وازدانت بلباقته، وحُسن نطقه للكلمات ومخارجها، وأعجبني ذلك الحضور المدهش الذي طغى به على الشاشة....

كنتُ منشغلًا بعمق، أفكّر بموضوع للكتابة حين فوجئت بما ظهر في شاشة التلفاز، وجه شاب رأيته سابقا، لكن لا أتذكّر على وجه الدقة، أين رأيته؟، في البدء شغلني الشاب الذي امتلأت بوجهه مساحة الشاشة وازدانت بلباقته، وحُسن نطقه للكلمات ومخارجها، وأعجبني ذلك الحضور المدهش الذي طغى به على الشاشة كأنه من كبار المراسلين!

بعد لحظات لا أكثر تذكّرتُ من هو، وأين رأيته، واستغربتُ حقا كيف أصبح مراسلا صحفيا مقبولا أو جيدا، وهو يكاد أن يكون بلا خبرة، ولا مؤهلات، حتى شهادته المدرسية لم تتجاوز المرحلة المتوسطة، وهو الوحيد من بين أشقائه العشرة يصل إلى الصف الثاني المتوسط، الباقون جميعا إما لم يدخل المدرسة تماما أو أنه لم يعبر المرحلة الابتدائية.

هذا الشاب يسكن الحي الذي أسكنه، بل نعيش في زقاق واحد، كان ينتمي إلى عائلة فقيرة، تتكون من أب وأم وأحد عشر ولدا وبنتا، جميعهم بلا عمل ولا موهبة وربما بلا ذكاء، أو بدرجة ذكاء قليلة، والأب موظف حكومي بسيط يشغل عمل لا يحتاج لشهادة ولا تحصيل علمي بأي درجة كانت ولا يحتاج إلى موهبة، إنها عائلة أمّية بمعنى الكلمة.

كان الأب والأم يكرهان التعليم، وهكذا خرج أولادهم عليهم (ذكورا وإناثا) لا يحبون المدرسة، والذي سجّل منهم في المدرسة يبقى يراوح في مكانه سنوات إلى أن يملّ ويتركها، وهكذا الأشقاء الآخرون يدخلون المدرسة، يفشلون ويخرجون بلا نتيجة، الوحيد الذي قاوم هذه الكراهية للدراسة هو الشاب الذي رأيته في شاشة التلفاز قبل قليل، وهو الولد الأوسط للعائلة.

ذات عصر سمعتُ أحدهم يطرقُ على باب بيتي، خرجت لأستطلع الطارق، فرأيت فتى لم يبلغ سن الاستقلال، نحيف الجسد بملابس بسيطة، ووجه يغص بالفقر، رحّبتُ به بعد أن عرفت أنه أحد أبناء جيراننا في الزقاق، ألقى تحية خجِلة، ثم بدأ يستفسر مني عن كيفية العمل في الفضائيات، وما هي الأمور المطلوبة منه لكي يعمل في الإعلام!؟

استغربتُ كلامه وأسئلته، ثم سألته: لماذا تطرح هذه الأسئلة، ومن الشخص الذي يريد أن يكون مراسلا تلفزيونياً؟ـ فأجاب: أنا أريد أن أعمل في الإعلام، أريد أن أكون إعلاميا، وتحديد أريد أن أكون مراسلا تلفزيونيا...

كدتُ أضحك لو لا أنني تداركتُ الأمر، وقارنت بيني وبين نفسي بشكل سريع، بين ما عليه هذا الشاب من مواصفات ومؤهلات وبين ما يتطلّبه عمل المراسل التلفزيوني، ثم قلتُ له: ما هو تحصيلك الدراسي؟، فأجاب: الآن أدرس في الثاني المتوسط!!.

ثم سألته وهل تعرف ما هو الإعلام وهل عملت في قناة أو مؤسسة إعلامية؟، فأجاب بالنفي، ثم سألني بمزيج من الإصرار والثقة والخجل: ألا تعرف بدورة إعلامية أستطيع دخولها كي أتعلم كيف أكون مراسلا تلفزيونيا أو إعلاميا؟

فأعطيته أسماء بعض المؤسسات وعناوين بعض الدورات في العاصمة من باب المجاملة، لأنني كنت أشعر بيني وبنفسي بأنه من المستحيل على هذا الفتى الفقير بعائلته الأمية الفقيرة، وبمؤهلاته الدراسية وغيرها أن يصبح إعلاميا، ولا أعرف لماذا أو كيف توصّلتُ لهذا الاستنتاج، صحيح هو فقير الحال والشكل والمؤهلات، ولكن الإنسان بمجرد أن يفكر بهذه الطريقة، فهو حتما لديه قابليات ومواهب غير مرئية ولا ملموسة...

غاب عني الفتى النحيل، مضى في الزقاق نحو بيتهم الذي لا يبعد كثيرا عن بيتنا، ورحتُ أفكر بيني وبين نفسي بعائلته وأفرادها الكثيرين، وبالفقر الذي كان ينهش وجوههم، والأمية التي تفتك بهم، وبأمهم التي كانت تلِد أطفالا دون حساب، وبالأب الذي كان يخرج إلى عمله في وقت مبكر من النهار على دراجته الهوائية، ولا يعود إلّا مع الغروب منهكا معدما، ينخر جسده الجوع والتعب والإحباط، ورحتُ أتساءل كيف يمكن للفتيان أبناء الفقراء من أمثال هذا الفتى، أن يفكروا بمثل هذه (الأهداف الكبيرة)؟؟

بعد سنوات طويلة، بالنتيجة، ومع الإصرار الذي يتحلى به، أصبح مراسلا تلفزيونيا ناجحا وتزوج وأنجب وكوّن أسرة، وحين التقينا أنا وهو ذات يوم، أول سؤال طرحته عليه، كيف استطعت أن تنفّذ ما في رأسك، وكيف حققت هدفك؟، فأجاب بكثير من الفخر والتواضع:

الإصرار على بلوغ الهدف أول شرط تمسكت به، ثم درست جيدا وامتحنت (الثالث متوسط بطريقة الاختبار الخارجي) وحصلت على الشهادة المتوسطة، ثم دخل أكثر من دورة إعلامية تعلمت وتدربت فيها على طبيعة عمل المراسل التلفزيوني، فأحببتُ عملي وأتقنته جيدا، وطورت نفسي كثيرا، وازدادت ثقتي بنفسي بشكل كبير، لدرجة أنني الآن لا أرى هدفا مستحيلا أو لا يمكن بلوغه، تحديد الهدف بدقة، التخطيط لبلوغه، مع التصميم والمثابرة، يجعلك قاب قوسين من أي هدف كان.......

حين انتهى من كلامه، شكرني لأنني وقفتُ معه في البداية وأعطيته عناوين بعض الدورات الإعلامية، (مع أنني لم أكن واثقا بأنه سوف يستفيد منها)، ثم ودّعني وركب سيارته البيضاء الحديثة وكانت زوجته الشابة تجلس جنبه مع طفلين جميليْن بعمر الورود.....

اضف تعليق