q
الرؤية بعيدة المدى للأئمة المعصومين، عليهم السلام، بين تكالب الحكام على السلطة، وضنك العيش لشريحة الفقراء والمعوزين، كانت تمثل ذكاءً سياسياً خارقاً يبعد عنهم نوايا السوء إلا في اللحظات الاخيرة والحاسمة، كما كان يمثل نقطة ضوء نحو الخلاص لأبناء الأمة جمعاء، حياة الإمام الجواد عليه السلام...

الرؤية بعيدة المدى للأئمة المعصومين، عليهم السلام، بين تكالب الحكام على السلطة، وضنك العيش لشريحة الفقراء والمعوزين، كانت تمثل ذكاءً سياسياً خارقاً يبعد عنهم نوايا السوء إلا في اللحظات الاخيرة والحاسمة، كما كان يمثل نقطة ضوء نحو الخلاص لأبناء الأمة جمعاء.

حياة الإمام الجواد، عليه السلام، القصيرة زمنياً، والغنية حضارياً وثقافياً، شكلت منعطفاً في مسيرة الرسالة، حيث توقف بعض الموالين وأعيان الشيعة في مسألة عمر الإمام الجواد، وكونه صبياً ذو تسع سنين عند استشهاد أبيه الامام الرضا، ولكن التفاتة البعض الآخر من المؤمنين الحقيقيين ممن امتحن الله قلوبهم، عززت الاعتقاد بإمامة الامام الجواد في هذا العمر، كما واكبت حياة الإمام الجواد سياسة المأمون العباسي الحريص منذ البداية على تجسير العلاقة مع أهل البيت لأغراض نبينها لاحقاً، فقد استشهد والده الإمام الرضا وهو في منصب ولاية العهد في خراسان، و وُري الثرى في أرض طوس، مما جعله رقماً صعباً لا يبرح يشغل بال المأمون وهو في خراسان، والامام الجواد في المدينة الى جوار مرقد جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله.

وبين هذا وذاك، كان همّ الامام الجواد الحفاظ على مشعل الرسالة وقادّاً مضيئاً للأجيال، وفي نفس الوقت الحفاظ على مصالح الأمة، واستثمار الظروف السياسية قدر الإمكان وتوظيفها لخدمة الرسالة، والتقليل من معاناة الناس وأزماتهم في مختلف الجوانب، وما أكثرها في ظل حكام الجور والطغيان من العباسيين.

بين إرادة المأمون ورؤية الإمام الجواد

تطرقنا في مقالات سابقة عن التوجه الفكري للمأمون المناقض لما يظهره على لسانه للإمام الرضا، عليه السلام، وهو عارف من يكون الامام، فقد كان يميل باطنياً الى مذهب الاعتزال، بينما يظهر الإيمان بمذهب أهل بيت رسول الله، ويشيد بالإمام الرضا وبسائر الأئمة وأنه لم يندم على "استخلاف الرضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وانزعه من نفسي فأبى"، كما جاء في رده على اعتراض شيوخ العباسيين بقراره الجديد بتزويج ابنته "أم الفضل" للإمام الجواد، بل وأضاف: "اني أعرف بهذا الفتى منكم وأن أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤه اغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال"، كل هذا في مسعى واضح منه لإضفاء شرعية ومقبولية على تمذهبه الخاص (الاعتزال) كما تشير المصادر التاريخية، بعد أن فرضه مذهباً رسمياً للدولة، بما يتضمن من مبادئ عقدية خطيرة مثل؛ خلق القرآن، وأنه غير منزل على النبي الأكرم، وأن لا وجود لشيء اسمه "كلام الله"، و ايضاً؛ نفي الصفات عن الذات الإلهية، فلا يصحّ عنده القول: "الله سميع"، او "الله بصير"، وهذا سائر الاسماء.

الغاية المبيتة لدى المأمون كانت إبعاد فكر أهل البيت المحفّز للعقول نحو الإيمان وتحمل المسؤولية في الحياة ضمن علاقة متواصلة بين الانسان و ربه من خلال الوسائط التي جعلها هو –تعالى- متمثلة بالأئمة المعصومين، بما يجعله متوازناً عقدياً بين الايمان بالغيب وتحكيمه العقل، بينما المأمون سعى لإبعاد جانب الغيب من النفوس بشكل هادئ لا يثير الضجيج، وفي حضور الامام الرضا، ومن بعده الامام الجواد.

فاذا تراجع الايمان بالغيب في النفوس تدريجياً، تتراجع الحاجة الى قائد بمعايير الغيب وأحكام السماء، ليحلّ محله ما يحكم به العقل من حُسن القائد القوي المقتدر مالياً وعسكرياً ومخابراتياً، يفرض بنفسه النظام والقانون، ويقول كما قال فرعون من قبل: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}.

كل هذا دعا المأمون لاستدعاء الإمام الجواد لأول مرة من مدينة جدّه الى بغداد عاصمة الدولة العباسية لتزويجه ابنته أم الفضل وليكرر نفس محاولة التقريب في خراسان مع أبيه الامام الرضا، وكان الإمام حينها فتى صغيراً ابن تسع سنين، كما تقول المصادر، فأثار هذا القرار حفيظة شيوخ العباسيين من أهل البيت، كما أثيروا من قبل مع الامام الرضا، ولكن المأمون كان مصراً على قراره، فدفعهم لمناظرة علمية مع الامام الجواد ليثبت لهم أنه جديرٌ بالزواج، وليس بالحدث وأنه "صبي لا معرفة له ولا فقه...".

فاتفق القوم على موعد يجتمعون في قصر المأمون، وأحضروا معهم يحيى بن أكثم، وكان قاضي القضاة، وكبير الفقهاء في عصره، وخرج عليهم الامام الجواد، عليه السلام، وجلس قبالة ابن اكثم، وفي المجلس العلماء والفقهاء وخلق كثير ليراقبوا أول مناظرة علمية فاصلة.

فبدأ يحيى بسؤال للإمام الجواد: ما تقول جعلت فداك، في مُحرم قتل صيداً؟

فسأل الامام بالمقابل: "قتله في حلّ أم حُرم؟ عالماً كان أو جاهلاً؟ قتله عمداً او خطأ؟ حراً كان أم عبدا؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصراً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتله أم في النهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله او بالحج كان محرماً؟

هذه الأسئلة المحيّرة أعيت يحيى بن أكثم و ألجمته فلم يعرف ماذا يقول، وقد كانت هذه الاسئلة إشارة ذكية من الإمام الى علماء الأمة، والى الناس أجمعين، بأنهم بين يدي إمامهم المعصوم المسدد من الله –تعالى- وليس كسائر العلماء يستقي علمه من الكتب والاحاديث والروايات المنقولة.

وبعد هذه المناظرة بساعات أعلن المأمون زواج الامام الجواد من ابنته أم الفضل. فتوجه الى الإمام بأن "أتخطب يا اباجعفر؟ فقال نعم، فقال المأمون: اخطب لنفسك جعلت فداك، قد رضيتك لنفسي وانا مزوجك ابنتي وإن رغم قومٌ لذلك"، (التاريخ الاسلامي دروس وعبر- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).

من الناحية الظاهرية أصبح الامام الجواد صهراً للحاكم القوي و"الخليفة" المقتدر آنذاك، وهي صلة لم يسبقه بها سائر الأئمة، عليهم السلام، فكان بامكانه أن يتولّى الحكم في إحدى الولايات الاسلامية، كأن يكون والياً على مدينة جدّه، او غيرها، بيد أنه، عليه السلام، أخذ بيد زوجته وغادر بغداد بهدوء كأي شخص آخر، ولم يطلب شيئاً من المأمون بعد ذلك.

أما ما كسبه الإمام الجواد فقد كان بعيداً جداً عن مرامي المأمون للفارق الشاسع بين المنهجين، وهو أمران، كما جاء في "التاريخ الاسلامي": الاول: "قيد المأمون من أن يقوم بعملية اغتياله، وذلك بقبوله الزواج من بنت المأمون، ثانياً: جعل مخالب السلطة وانيابها في قفص الحركة الرسالية وذلك أن المأمون ما كان ليجرؤ بعد ذلك على ان يقوم بالفتك برجالات الحركة ومجموعاتها".

وما يعزز هذا ما نقل عن المستشرق دونالدسون: "ان الملاحظة انه –المأمون- لم يتعرض أحدٌ خاصة الى الامام التقي، فلم يُوقف أو يُزعج طول حكم المأمون"، (الامام محمد بن علي الجواد- الشيخ محمد حسن آل ياسين).

ليس في عهد المأمون وحسب، بل وفي عهد ابنه المعتصم استثمر الامام الجواد الوضع السياسي لخدمة الرسالة ونشر الوعي والثقافة الأصيلة بين ابناء الأمة، فقد بقي صهراً للمأمون، وقريباً لشقيق الحاكم الجديد الذي غرق حتى اذنيه في أزمة تضخم القوة العسكرية للاتراك، وما افرزه من تداعيات اجتماعية خطيرة كاد أن ينفجر الوضع معها في بغداد بسبب استهتار وانتهاك العسكريين الاتراك لكل القيم والاداب والاخلاق، فاضطره لنقل مقر الخلافة الى سامراء، فقد عجز عن توجيه أي لوم او ضغط عليهم خوفاً من بطشهم وقسوتهم.

هذا الوضع المرتبك للمعتصم مكّن الامام من التفرّغ لنشر علوم أهل البيت، ونشر الوعي بين الناس في مدينة جدّه، فكانت المدينة مهوى العلماء والمحدثين لينهلوا من الامام الجواد ما يروي غليلهم من العلوم والمعارف المتصلة بالسماء بما لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

حفظ مصالح الأمة

من جانب آخر كان الامام الجواد ينظر الى مصالح ابناء الأمة ببالغ الحرص والاهتمام في ظل هدر فضيع للثروة وتبديد أموال المسلمين على موائد الخمور وحفلات المجون والغناء، والهبات غير المعقولة للشعراء المطبلين.

ومن المواقف المسجلة في التاريخ أن حاجّاً من سجستان، رأى الامام في الموسم فاستثمر الفرصة لعرض مشكلته عليه، وكان على مائدة يعدها الإمام كل يوم للمسلمين، فقال للإمام:

إن والينا –جعلت فداك- رجل يواليكم، وعليّ في ديوانه خراجٌ فان رأيت أن تكتب اليه بالإحسان إليّ، فقال له الإمام: لا أعرفه، فقال السجستاني: انه على ما قلت من محبيكم أهل البيت، وكتابك ينفعني عنده، فأخذ الامام القرطاس وكتب:

"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فان موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً، وأن مالك من عملك ما أحسنت فيه، فأحسن إلى اخوانك، وأعلم أن الله عزّوجل سائلك".

وما أن وصل الكتاب الى الوالي في تلك البلدة حتى استقبله ووضع الكتاب على عينيه، وقضى له حاجته، وكانت تصفير ديونه لضائقة مالية ألمّت به.

والأكثر أهمية من ذلك؛ ما قدمه الإمام الجواد، عليه السلام، من تعزيز لأركان العقيدة التي كادت ان تهتزّ في النفوس بفعل الترويج للاعتزال والعقلنة على يد أنصار المأمون، فقد راح الإمام يفتي الناس ويبين لهم معالم الدين والعقيدة ويجيب عن اسئلة العلماء والفقهاء في التوحيد والفقه والأخلاق والقرآن والحديث وموضوعات علمية عدّة، وهذه تعد من أعظم المكتسبات لشيعة أهل البيت في ظل حكم الغاصبين للخلافة، وفي فترة قياسية جداً.

ومما ينقل عنه، عليه السلام، أن رجلاً سأله: أخبرني عن الرب تبارك وتعالى، وله أسماء وصفات في كتابه: أسماؤه وصفاته هي هو؟!

أجاب الامام الجواد: أن لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: هي هو، أي انه ذو عدد وكثرة، فتعالى الله عن ذلك، وإن كنت تقول: هذه الصفات والاسماء لم تزل، فان لم تزل محتمل معنيين: فان قلت لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها فنعم، وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله ان يكون معه شيء غيره، بل كان ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها اليه ويعبدونه، وكان الله ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل، والاسماء والصفات مخلوقات، والمعاني والمعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف، وانما يختلف ويأتلف المتجزئ، فلا يقال: الله مؤتلف، ولا: الله قليل ولا كثير، ولكنه القديم في ذاته".

وبالامكان مراجعة المصادر للمزيد من اجوبة الإمام الرائعة والسديدة في مجال العقائد والفقه وسائر العلوم والآداب، وكيف أنه أغنى الامة في تلك الفترة القصيرة من عمره الشريف، وهذا ما لا يحتمله العباسيون، فدعاه المعتصم الى بغداد، فغادر الامام الجواد مدينة جده للمرة الثانية الى بغداد لتكون هذه المرة الاخيرة يغادر فيها الامام مدينته وأهله، وقد أحسّ بما يدبّر له من مكائد.

وقد اجتمعت على الإمام اسباب القتل، منها؛ حسد أشباه العلماء من المقربين الى البلاط العباسي ممن كشف زيفهم الامام في اجوبته الدقيقة مقابل فشلهم وعجزهم وجهلهم، ومنها ايضاً؛ غيرة زوجته أم الفضل –كما ينقل- من زوجة الامام الاخرى التي أولدت له الامام علي الهادي، فيما بقيت هي عاجزة عن الحمل، بيد أن يد القتل الاساسية تنطلق من رأس الحكم نفسه دائماً، وهو المعتصم العباسي الذي أول واكثر من يستشعر الخطر من الامام الجواد، فدسّ اليه السمّ في مثل هذه الايام من سنة 220للهجرة ليقضي نحبه ويلتحق بآبائه الطاهرين، وهو ابن خمس وعشرين عاماً، ويرقد الى جوار جدّه الامام الكاظم، عليهما السلام، في مقبرة قريش آنذاك وهي اليوم كوكب مضيء للملايين يقصدوه الزائرون من كل مكان.

اضف تعليق